mueller48_Omar MarquesGetty Images_duda Omar Marques/Getty Images

عندما يتظاهر الخاسرون بأنهم الفائزون

برينستون ــ بعد مرور أكثر من شهرين بعد النصر الحاسم الذي حققته الأحزاب المؤيدة للديمقراطية في الانتخابات العامة في بولندا، أدى زعيم المعارضة دونالد تاسك أخيرا اليمين الدستورية كرئيس للوزراء. في البداية، قرر الرئيس أندريه دودا، الموالي لحزب القانون والعدالة، إعادة تعيين ماتيوش مورافيتسكي، سلف تاسك من حزب القانون والعدالة الشعبوي اليميني، في المنصب بحجة تشكيل الحكومة. وكما كان متوقعا، فشل مورافيتسكي في اجتياز التصويت على الثقة في البرلمان.

يشكل تكتيك المماطلة هذا ــ وإن لم يكن مخالفا للقانون، لكنه غير شرعي بشكل واضح ــ جزءا من اتجاه مثير للقلق في الانتخابات الديمقراطية، حيث يرفض الحزب الخاسر قبول الهزيمة. تشمل الأمثلة الواضحة على هذا الاتجاه أعمال الشغب في واشنطن العاصمة في يناير/كانون الثاني 2021 وفي برازيليا في يناير/كانون الثاني 2023.

ولا يخلو الأمر من استراتيجيات أشد دهاء لإنكار نتائج الانتخابات، والتي يجري تنفيذها بهدوء في المكاتب، وليس في اشتباكات عنيفة مع الشرطة. وأبطال هذه الاستراتيجيات ليسوا أعضاء ميليشيات أو مثيري شغب يرتدون ألوان فريق كرة القدم الوطني، بل هم محامون بارعون يدفعون قواعد اللعبة إلى أقصى حدودها ــ وهو ما يطلق عليه الباحثون وصف "القانونية الاستبدادية".

تقوم الديمقراطية التمثيلية على اعتقاد مفاده أن الطرف الخاسر في الانتخابات سيحظى دوما بفرصة أخرى لتشكيل الأغلبية، وأن أي قرار سياسي يمكن الرجوع عنه. يشكل القِـسم الأول من هذا الاعتقاد حقيقة واقعة في نظام يلتزم بفكرة "التشغيل المتكرر" ــ فليس من الممكن لأي انتخابات أن تكون هي الأخيرة على الإطلاق. لكن القِـسم الثاني لا يخلو من مبالغة، لأن السياسات لها عواقب لا يمكن التراجع عنها أبدا، حتى لو غيّر الحزب القادم المسار جذريا.

ورغم أن الحكومات الجديدة لا تبدأ أبدا بصفحة بيضاء، فإنها قادرة على التقدم بثلاثة طلبات مشروعة للإدارات المنتهية ولايتها: عدم تعيين موظفين في مناصب كبرى أو التعهد بالتزامات سياسية في اللحظة الأخيرة، وفي المقام الأول من الأهمية، الامتناع عن إجراء تغييرات بنيوية من شأنها أن تقلل من صلاحيات المنصب.

تمكن الشعبويون اليمينيون في بولندا من الإبقاء على قبضتهم القوية على مقاليد السلطة من خلال استغراق الحد الأقصى من الوقت الذي يسمح به القانون لاتخاذ كل قرار. فقد انتظر دودا قدر استطاعته لتعيين رئيس الوزراء. ورغم أن دودا كان يعلم أن مورافيتسكي لا يتمتع بأغلبية في البرلمان، فقد كان بوسعه أن يزعم أن حزب القانون والعدالة ينبغي أن يُمنح الفرصة الأولى لتشكيل الحكومة لأنه الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات. وبدوره، لجأ مورافيتسكي إلى تأخير عرض حكومته على مجلس النواب حتى آخر لحظة ممكنة.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

صاحبت هذه التحركات سلسلة من الاتهامات من جانب زعيم حزب القانون والعدالة ياروسواف كاتشينسكي، الذي ادعى في مناسبات عديدة أن الانتخابات لم تكن نزيهة، وأن قوى خارجية (وخاصة ألمانيا) سرقتها. ومؤخرا، هذا الأسبوع، اشتكى كاتشينسكي من أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى استبدال الدولة البولندية بمنطقة يقيم فيها البولنديون ولكن تديرها بروكسل، أو برلين في نهاية المطاف. لقد صَوَّر تسليم السلطة ليس فقط على أنه غلطة (كما قد يقول أي سياسي في دولة ديمقراطية)، بل باعتباره خيانة للبلاد (كما قد يزعم الشعبويون اليمينيون والمستبدون الطموحون).

خلال الوقت الذي اشتراه حزب القانون والعدالة عن طريق رئيسه الدمية، عمل الحزب على تعيين موالين له في مناصب كبرى في هيئات ولجان الدولة. وسوف يكون من المستحيل عمليا إقالة هؤلاء الأشخاص، حتى لو تسببوا في جعل حياة تاسك بالغة الصعوبة، لأن تعييناتهم لم تكن غير قانونية من الناحية الفنية.

كما ضخت حكومة حزب القانون والعدالة الأموال إلى المؤسسات والمعاهد التي تروج لقضاياها المفضلة، بما في ذلك "التراث المسيحي" والقومية. من الواضح أن مثل هذه الأماكن توفر وظائف مجزية سهلة، ولكنها من الممكن أيضا أن تفرض تأثيرا طويل الأمد على الثقافة السياسية. الأمر الأكثر شؤما هو أن التغييرات التي فُـرِضَـت على النظام القضائي في اللحظات الأخيرة، والتي تضمنت خفض متطلب النصاب القانوني الواجب للقرارات التي تصدرها المحاكم، ستضمن في الأرجح الـغَـلَـبة للقضاة الذين يعينهم دودا في السنوات المقبلة.

من المؤكد أن الأحزاب التي لا تُـبدي ميولا استبدادية تنصب أيضا فخاخا سياسية لخلفائها ــ وإن كان هذا يحدث عادة قبل الدعوة إلى انتخابات تتوقع خسارتها. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، أقر المحافظون قيودا صارمة على الإنفاق قبل الانتخابات العامة في عام 1997، والتي فازت بها المعارضة بأغلبية ساحقة. وقد التزمت بهذه القيود حكومة حزب العمال التالية، خوفا من الظهور بمظهر المتهورة ماليا. (اعترف المحافظون في وقت لاحق بأنهم ما كانوا ليفعلوا الشيء ذاته). وأدى ذلك إلى نقص تمويل الخدمات العامة البريطانية ــ دون أي ضرورة على الإطلاق. وبدوره، رفع حزب العمال الضرائب وأصدر تشريعات تقدمية قبل عودة المحافظين إلى السلطة في عام 2010.

على الرغم من كونها غير عادلة، فإن مثل هذه الفخاخ السياسية يمكن اكتشافها وإزالتها نظريا. المواقف الأشد صعوبة حقا هي تلك التي تؤدي فيها التغييرات البنيوية إلى تعجيز الفائزين في الانتخابات. عندما فازت أحزاب المعارضة بالانتخابات البلدية في إسطنبول وبودابست، لجأت الحكومات الوطنية بقيادة الشعبويين اليمينيين ببساطة إلى قطع الموارد والكفاءات المالية عن المدينتين. وفي ولاية كارولينا الشمالية، عمل حاكم جمهوري منتهية ولايته، بمساعدة المجلس التشريعي في الولاية، على تجريد خليفته الديمقراطي من صلاحيات تنفيذية مهمة.

تُـرى كيف يمكن وقف المستبدين الشرعيين؟ كبداية، من الممكن وضع قواعد جديدة قد تزيد من صعوبة الدفع بتعيينات جديدة في اللحظة الأخيرة. بالطبع، كما هي الحال مع كثير من التدابير الرامية إلى حماية الديمقراطية، تكمن المشكلة في أن القواعد تفترض ما ينبغي لها أن تضمنه. في عام 2016، زعم الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي أن الرئيس لا ينبغي له بعد الآن ترشيح قضاة للمحكمة العليا في عام انتخابي، لكنهم غيروا موقفهم تماما عندما أتيحت لهم الفرصة لتنصيب مرشحهم قبل انتخابات 2020 مباشرة.

يجب إلزام الحكومات المنتهية ولايتها ــ التي هي إدارات تصريف أعمال فعليا ــ بتوفير فرص إضافية لمناقشة التشريعات. هذا من شأنه أن يبطئ أي تغييرات ويوفر الدعاية المطلوبة بشدة، وإن كانت الشفافية، كما تعلمنا بالطريقة الصعبة في السنوات الأخيرة، لا تكفي وحدها لتحقيق الغرض منها: فالحكام المستبدون الطامحون، وخاصة أولئك الذين يلاحقون استراتيجيات قانونية، أصبحوا ببساطة بلا حياء على الإطلاق.

ولكن لن يكون من الممكن أبدا فضح السفهاء الماجنين ما لم نعرف ما الذي تفعله الحكومة المنتهية ولايتها. وبوسع أحزاب المعارضة وحتى منظمات المجتمع المدني التصدي على الأقل للخاسرين الذين يتظاهرون بأنهم فائزون. فهي في نهاية المطاف، تتمتع بأغلبية في صفها.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/MwH7Ugbar