العولمة والحركة المضادة للأمركة

بدأت المشاعر المعادية للأمركة بالانتشار حول العالم. ويقول الديمقراطيون الأمريكيون بأن سياسات الرئيس بوش بددت جاذبية أمريكا. ويرد الجمهوريون بأن المشاعر المعادية لأمريكا محتومة وذلك بسبب كبر حجم أمريكا وبسبب سياساتها المؤيدة للعولمة. ويقول البعض الآخر بأن المشاعر المعادية لأمريكا سوف تستمر بالازدياد لأن أمريكا تمثل تهديداَ ثقافياَ للبعض. ولكنني أعتقد بأن وجهات النظر هذه تفتقر للبعد التاريخي.

وعلى عكس الاعتقاد السائد؛ لا تعتبر العولمة أمركة وتمييعاً لثقافات العالم. وعلى الرغم من أن أمريكا تعتبر الرائد لثورة المعلومات الحالية ـ التي تخلق الكثير من التشابهات في العادات الاجتماعية والثقافية (مثل متابعة التلفاز واستخدام الانترنت) ـ إلا أن ارتباط هذه التشابهات بالأمركة ليس سببياَ.

وحتى نفسر ذلك علينا أن نتخيل بلاداَ تنتج الكومبيوترات والاتصالات بمعدلات متسارعة في عالم لا توجد فيه أمريكا. يمكننا أن نتوقع تغيرات اجتماعية وثقافية كبيرة نتيجةَ لهذا التطور. وبالطبع، وبسبب وجود أمريكا على رأس ثورة المعلومات، فلابد أن ينعكس هذا الأمر أمركةً للعالم إلى درجة معينة، ولكن هذا الأمر سيتضاءل حتماَ مع انتشار التكنولوجيا وتطور الثقافات كل على طريقتها خلال تقدمنا في القرن الواحد والعشرين.

وتعتبر اليابان التي عزلت نفسها ضد موجات العولمة المبكرة، مثالاَ واضحاَ على أن العولمة لا تعني التماهي الثقافي بالضرورة. فقد غدت اليابان في منتصف القرن التاسع عشر، الدولة الآسيوية الأولى التي تعتنق العولمة، والدولة الأولى التي تأخذ من العالم دون أن تخسر فرادتها.

في حقبة ميجي الإصلاحية بحثت اليابان خارجاَ عن أدوات واختراعات تسمح لها بأن تصبح قوة عظمى بدلاَ من أن تغدو ضحية للإمبريالية الغربية، فأرسلت شبابها إلى الغرب لتحصيل العلم والمعرفة. وانتشرت بعثاتها في أنحاء العالم بحثاَ عن الأفكار العلمية والتكنولوجية والصناعية.

أما في الحقل السياسي فقد عرف الإصلاحيون الميجيون الأفكار والمؤسسات الأنجلو أمريكية. ولكنهم وبشكل متعمد اتبعوا النماذج الألمانية لأنها كانت أكثر مناسبة لبلاد إمبراطورية.لا تعلّم اليابان العالم بأن البلدان الآسيوية يمكنها المنافسة فحسب؛ لا بل تعلمه إمكانية تبني العولمة لقرن ونصف من الزمن مع الاحتفاظ بالهويه الثقافية المتميزة.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

ومن ناحية أكثر جوهرية، يمكننا القول بأن صورة التماهي مع أمريكا إنما تعكس فهماَ خاطئاَ راكداَ للثقافة. وغالبا ما تعكس الجهود التي تحاول رسم الثقافات المحلية على أنها أمور ثابتة، الاستراتيجيات السياسية أكثر مما تصف الواقع. وكما يقول الكاتب البيروفي ماريو فرجس لوسا؛ إن من يقاتلون دفاعاَ عن الهوية الثقافية ضد العولمة إنما يخونون موقفاَ راكداَ لثقافةٍ لم تنتج عن حقائق تاريخية. هل سمعتم عن ثقافات لم يطرأ عليها أي تغيير على مر الزمن؟ على المرء أن يذهب للعثور على مثل هذه الثقافات إلى أماكن صغيرة بعيدة بدائية، تعتنق مجتمعاتها الديانات والطقوس السحرية. والتي أصبحت ـ وبسبب أوضاعها البدائية ـ أكثر ضعفاً وقابلية للاستغلال والتطرف.

ونجد الثقافات الحية عرضة للتغير والتطور المستمرين، ونجدها أكثر اقتراضاً من غيرها من الثقافات، ويكون هذا الاقتراض من غير الولايات الأمريكية في كثير من الأحيان. وعلى سبيل المثال نجد أن كثير من البلدان ولم تتبع سياسات أمريكا في الدساتير المتعلقة بالزراعة بعد انتهاء الحرب الباردة؛ بل حذت حذو كندا في الدساتير التي أصدرتها والخاصة بهذه الأمور.

أن االعولمة سيف ذو حدين. إذ لا يقتصر الأمر في بعض الحقول على معاداة الثقافة الأمريكية المستوردة لا بل يمتد إلى محاولة تغيير الثقافة الأمريكية نفسها. فمثلاً يحوز العقاب المادي على رضى غالبية الأمريكيين. ولكن تعتبر عقوبة الإعدام انتهاكاً فظيعاً لحقوق الإنسان ليس في أوربا فحسب ولكن على امتداد العالم بأجمعه.

وتثير سياسات أمريكا البيئية اتجاه التغيير المناخي والتعديل الوراثي للغذاء ردود أفعالٍ مشابهة لما سبق. وبحذق أكبر، يغني انفتاح أمريكا على الهجرة ثقافتها ويغير عاداتها.

وبالتالي فقد تؤدي العولمة وثورة المعلومات إلى تقوية وتعزيز التنوع الثقافي في العالم بدلاً من أن تقلله. ويعرب الكثير من المعلقين الفرنسيين عن قلقهم حول أن لا يكون هناك متسع لثقافة تقدر المئات من أنواع الجبنة في بيئة التسويق عبر شبكة الإنترنت. ولكن وعلى العكس، تخلق شبكة الإنترنت بيئة محفزة للكثير من الأسواق المتخصصة، بما فيها مئات المواقع المخصصة للأنواع المختلفة من الجبنة فقط.

وتسمح الإنترنت للناس بتأسيس مجتمعات سياسية أكثر تنوعاً. وينتشر استخدام اللغة الويلزية في بريطانيا واللغة الغاليكية في أيرلندا اليوم أكثر بكثير من خمسين سنة مضت. وقد حولت بريطانيا وبلجيكا واسبانيا وغيرها من البلدان الأوربية اليوم الكثير من القوى نحو مناطقها المحلية. قد يساعد عصر المعلومات الجديد في تقوية الثقافات المحلية بدلاً من أن يضعفها.

وقد تخلق العولمة الاقتصادية والاجتماعية بعض التشابهات السطحية مثل القمصان وماركات المشروبات الغازية ولكنها لن تؤثر على ثوابت التنوع الثقافي الأكثر عمقاً. وتعتبر الثقافة الأمريكية رائجة اليوم وهي تساهم في خلق الجاذبية الأمريكية "قواها اللينة" ـ في العديد من المجالات لا كلها. ومن جهة أخرى نجد بأن الثقافة الأمريكية تتأثر بالهجرات والأفكار والأحداث التي تحدث خارج حدود أمريكا.

وقد تقل سيطرة الثقافة الأمريكية والاقتصاد الأمريكي عبر تقدمنا في الزمن وعبر انتشار العولمة وانتقال التكنولوجيا وتقنيات المعلومات التي تسمح بمشاركة أكبر في عولمة الاتصالات. قد تعني هيمنة أقل، حساسية أقل حول عملية الأمركة، وشكاوى أقل حول العجرفة الأمريكية، وكثافة أقل في الحركات المعادية للأمركة. قد تمتلك الولايات المتحدة سيطرة أقل في المستقبل؛ ولكنها قد تجد نفسها في عالم أكثر تلاؤماً مع قيمها الأساسية في الديمقراطية والأسواق الحرة والحريات الفردية وحقوق الإنسان.

https://prosyn.org/BQM68hSar