Unstable balance boy skateboard Ricky Romero/Flickr

عدم استقرار بلا داع

باريس ــ في الحياة الطبيعية، من الأفضل أن تُترَك المسائل الفنية للفنيين. فمالك السيارة لا يحتاج ــ أو لا يرغب عادة ــ إلى تكليف نفسه عناء معرفة ما يجري بالضبط تحت غطاء المحرك. ولكن عندما تتعطل السيارة فإنه لا يجد خياراً آخر عادة.

وما يصدق على السيارات ينطبق على الاقتصاد: فالقضايا الغامضة للمتخصصين. ولكن في السنوات الأخيرة، ظهرت مواضيع لم يسمع بها الناس أو لم يهتموا بها من قبل ــ على سبيل المثال، التوريق، ومقايضة العجز عن سداد الائتمان، ونظام الدفع الأوروبي المعروف باسم "تارجت 2" ــ فَرَضَت نفسها على المناقشة العامة، الأمر الذي أرغم الناس العاديين على التعامل مع تعقيدات تلك القضايا.

والشيء نفسه بدأ يحدث مع فكرة "نمو الناتج المحتمل". فهذا المفهوم، الذي أنشأه خبراء الاقتصاد في الأصل من أجل خبراء الاستخدام، أصبح استخدامه لتحديد متى وإلى أي مدى يجب تصحيح الدين العام موضوعاً لمناقشة أوسع نطاقا. والواقع أن عدم جدارة هذا المفهوم بالثقة يضعف بدرجة خطيرة الميثاق المالي للاتحاد الأوروبي ــ الأمر الذي يجعل رفع غطاء المحرك والنظر تحته أمراً ضروريا.

الواقع أن هدف الناتج المحلي الإجمالي المحتمل ــ خلافاً للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ــ هو أن نضع في الحسبان أن الاقتصاد، مثله في ذلك كمثل محرك السيارة، يعمل غالباً دون المستوى المحتمل أو أعلى منه. وفي حالة الركود بسبب نقص الطلب، يهبط الناتج الفعلي إلى ما دون المحتمل، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع البطالة. وعلى نحو مماثل، تعمل طفرة البناء التي تتغذى على الاستدانة على دفع الناتج إلى الارتفاع بما يتجاوز المحتمل، الأمر الذي يؤدي إلى التضخم.

وبالتالي فإن الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي الفعلي والمحتمل تشكل مقياساً للقدرة الإنتاجية الفائضة لدى أي اقتصاد. والتمييز هنا مفيد لأغراض السياسة أيضا: فالنمو المحتمل الضعيف من غير الممكن معالجته بمبادرات على جانب الطلب؛ فالتدابير على جانب العرض مطلوبة.

ولكن الناتج المحلي الإجمالي المحتمل يمكن تقديره فقط، ولا يمكن ملاحظته. والتقديرات تستند إلى كم العمل ورأس المال المتاح للإنتاج وتقييم إنتاجيتهما المشتركة. ولأن التقديرات تتفاوت، اعتماداً على البيانات والطرق المستخدمة، فإن المفهوم واضح في حين أن قيمته غير دقيقة.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

وعلاوة على ذلك، خلقت الأزمة المالية العالمية مجموعة جديدة من الألغاز. إن الناتج المحلي الإجمالي في كل الاقتصادات المتقدمة تقريباً أصبح حالياً أقل كثيراً من توقعات ما قبل الأزمة، ومع هذا فإن قِلة منها تتوقع سد الفجوة في أي وقت. ويكافح صناع السياسات للوصول إلى التقييم الصحيح. ويتساءل بعضهم ماذا تبقى من مفهوم الناتج المحتمل.

يواجه الاتحاد الأوروبي مشكلة إضافية: ففي الاستجابة لأزمة الديون السيادية، وافقت أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي في عام 2011 على "ميثاق مالي" يلزمها بالإبقاء على عجز موازناتها الهيكلية ــ الذي تسجله هذه البلدان إذا كان الناتج الفعلي مساو للمحتمل ــ عند مستوى أقل من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي. والفشل في التلاقي مع هذه الهدف ربما يفتح الباب لعقوبات مالية.

تكمن الميزة في مثل هذا الإطار في أنه يحملنا على الأخذ في الاعتبار تأثير الناتج الأضعف بشكل مؤقت على النتائج المالية. وبالتالي فإن العجز يصبح مقبولاً عندما يكون ناتجاً عن عائدات ضريبية منخفضة إلى حد غير طبيعي، ولكن ليس عندما تكون العائدات عند مستواها الطبيعي.

الواقع أن الخلل الرئيسي في الميثاق الأوروبي للاستقرار والنمو كان أنه لم يتضمن مثل هذه التصويبات (وكنت بين أولئك الذين نادوا بإصلاحه في تقرير صدر عام 2003 لرئيس المفوضية الأوروبية). وكانت معاهدة 2011 مبنية في واقع الأمر على سلسلة من الإصلاحات السابقة التي أكدت بشكل متزايد على التقييمات القائمة على الناتج المحتمل للموقف المالي.

والمشكلة أن هناك متغيراً غير دقيق وغير قابل للرصد ــ وتقديراته أقل دقة وأكثر تقلباً من أن تقدم ما يزيد على خريطة طريق تقريبية لرحلة البلاد نحو الاستقامة المالية ــ أصبح يشكل جزءاً من معاهدة دولية والقواعد الدولية (واكتسب وضعاً دستورياً في بعد الحالات) التي يتم تنفيذها من خلاله.

وحتى تقديرات الناتج المحتمل الحالي أو القريب الأمد تُعاد صياغتها بشكل مستمر، وهذا يعني ضمناً تغيراً مستمراً في تقييم الموقف المالي الأساسي. على سبيل المثال، كان توقع المفوضية الأوروبية للنمو المحتمل في هولندا لعام 2013، عندما بدأت الحكومة إعداد ميزانيتها في ربيع عام 2012 نحو 0.9%. وبحلول الخريف، عندما تم تنفيذ التقييم اللحظي للأداء المالي، خضع التقييم للتنقيح نزولاً بشكل حاد بنسبة 0.2%. وبالنسبة لفرنسا، انخفض التقدير من 1.2% إلى 0.9%، وبالنسبة لإيطاليا انخفض من 0.1% بالسالب إلى 0.4% بالسالب. كما انخفض التقدير للنمو المحتمل في أسبانيا من 1.2% بالسالب إلى 1.4% بالسالب، ولكن المفوضية غيرت رأيها في وقت لاحق، والآن تقول إن التقدير أصبح 0.7% بالسالب. وهذه ليست استثناءات.

وبالنسبة للناتج المحلي الإجمالي الفعلي، فإن مثل هذا التنقيح المتكرر والكبير للتوقعات حتمي. غير أن الناتج المحلي الإجمالي المحتمل من المفترض أن يكون أكثر استقرارا، لأنه لا يعتمد على تطورات جانب الطلب.

صحيح إن هناك بعض الأسباب لإعادة تقييم النمو المحتمل في أي بلد بما يتفق مع معلومات جديدة عن أوضاع سوق العمل، والاستثمار، والإنتاجية. ولكن المحاولات المستميتة للتوصل إلى تقديرات دقيقة من الممكن أن تسفر بسهولة عن مجرد ضجيج.

وعلاوة على ذلك، يفضي عدم الاستقرار إلى إرباك عملية صنع السياسات. وحتى التنقيح نزولاً بنسبة 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي مؤثر: فهو يعني ضمناً تدهور العجز البنيوي بنحو 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي ــ وهو ليس بالرقم التافه في بيئة مقيدة ماليا.

ومن المفهوم أن يشعر أعضاء البرلمان ــ الذين هم من غير المتخصصين ــ بالانزعاج عندما يُطلَب منهم إقرار ميزانية منقحة استجابة لتقديرات محدثة. ولأنهم لا يعرفون الأسباب والحيثيات فإن الأمر ينتهي بهم إلى النظر إلى هذه المراجعات باعتبارها مصدراً لعدم استقرار مصطنع.

يتلخص الغرض من الإطار المالي الأوروبي في إطالة الأفق الزمني للسياسة وجعل صناع القرار أكثر إدراكاً لتحديات استدامة الديون التي يواجهونها. وهذا يتطلب الاتساق. غير أن التقلبات في تقييم النمو المحتمل تمنع الساسة من "امتلاك" العجز العميق بالفعل وتُحدِث التقلبات في السياسات المبنية على هذا التقييم، وتفضي على نحو لا يخلو من المفارقة إلى اختزال الأفق الزمني المتاح لصناع القرار. ولا ينبغي لمناقشة السياسات أن تركز على التنقيح الأحدث للناتج المحلي الإجمالي المحتمل، بل ما إذا كانت دولة ما على المسار إلى ضمان استدامة التمويل العام.

في كثير من الأحيان، ينظر صناع السياسات الوطنيون إلى الميثاق المالي الأوروبي باعتباره قيداً خارجيا، وليس إطاراً يفضي إلى اتخاذ قرارات أفضل. والواقع أن درجة أكبر من الاستقرار في تقييم إمكانات أي اقتصاد من شأنها أن تعزز وعي صناع القرار وتقديرهم لحجم التحديات الأطول أمدا، وبالتالي وضع عملية صنع السياسات على أسس أكثر صحة ورسوخا.

ترجمة: أمين علي          Translated by: Amin Ali

https://prosyn.org/ishYLyRar