1db6510446f86f380e37af27_pa3215c.jpg

عجز المهارات

بروكسل ـ بعد مرور عامين منذ أصيب الاقتصاد العالمي بانهيار عصبي في أعقاب انهيار ليمان براذرز، لا تزال الأسواق المالية العالمية غير مستقرة، ويبدو أن التعافي الذي بدأ بقوة في عام 2009 قد توقف.

لقد أدى التباطؤ على نحو متوقع إلى تعالي الأصوات المنادية بالمزيد من التحفيز الضريبي والنقدي. وتبدو الحجة الداعمة لهذه النداءات بسيطة: إذ لم يتمكن العالم من تفادي الانزلاق إلى أزمة كساد عظمى ثانية إلا بفضل الجرعة الضخمة من الإنفاق الحكومي والدعم الهائل الذي وفرته البنوك المركزية للنظام المالي، لذا فإن المزيد من نفس الدواء مطلوب الآن لمنع الانزلاق ثانية إلى هوة الركود.

والواقع أن هذه الحجة تبدو قوية بشكل خاص في الولايات المتحدة، التي تعودت أثناء سنوات الرواج الطويلة على معدلات بطالة تدور حول 5% ونمو مضطرد في الاستهلاك. ولكن في تقديرنا للتوقعات الخاصة باقتصاد الولايات المتحدة، لا ينبغي لنا أبداً أن نقارن بين معدلات النمو ربع السنوية المنخفضة (كانت بيانات الفترة من إبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران مخيبة للآمال بشكل خاص) ومعدل البطالة الحالي الذي بلغ 10% تقريباً وبين فترة الفقاعة "الذهبية". فالأمر يتطلب نظرة أبعد مدى، وذلك لأن الولايات المتحدة تواجه الآن تحدياً مرتبطاً بالتعديل البنيوي الذي سوف يكون مصحوباً بارتفاع معدلات البطالة.

ومثله كمثل اقتصاد جنوب أوروبا فإن اقتصاد الولايات المتحدة لابد وأن يتحرك بعيداً عن نموذج النمو القائم على الاستهلاك/الإسكان والذي تبنته طيلة العقد الماضي. ولقد لخص الرئيس باراك أوباما هذا التحدي بتحديد هدف مضاعفة الصادرات الأميركية خلال العقد المقبل. ولكن الأقوال أسهل من الأفعال.

إن مثل هذا التحول البنيوي نحو الصادرات بالغ الصعوبة وسوف يستغرق وقتاً طويلاً، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن إنتاج السلع ذات التقنية العالية التي لابد وأن تصدرها الولايات المتحدة تتطلب أيد عاملة ماهرة، وهو العنصر الغائب إلى حد كبير ولا يمكن إيجاده بين عشية وضحاها. ففي خلال الأعوام العشرة التي سبقت بلوغ الفقاعة ذروتها في عام 2007، فقدت الولايات المتحدة نحو أربع ملايين وظيفة في قطاع التصنيع، الذي هبطت حصته في إجمالي قوة العمل من أكثر من 17% إلى 12%. ولقد ظلت مستويات البطالة منخفضة لأن الاقتصاد الداخلي المزدهر كان قادراً على خلق العدد الكافي من الوظائف في قطاعي الخدمات والبناء.

ويبدو أن عكس مسار هذا التحول بسرعة أمر مستحيل. ذلك أن أغلب عمال البناء من ذوي المهارات المتدنية، وبالتالي لا يمكن إعادة توظيفهم في قطاعات التصنيع الحديثة التي تتسم بالتقنية العالية. وينطبق نفس القول على وكلاء العقارات، والموظفين الاجتماعيين، ومديري حسابات بطاقات الائتمان.

PS Events: Climate Week NYC 2024
image (24)

PS Events: Climate Week NYC 2024

Project Syndicate is returning to Climate Week NYC with an even more expansive program. Join us live on September 22 as we welcome speakers from around the world at our studio in Manhattan to address critical dimensions of the climate debate.

Register Now

وكان الوضع أثناء سنوات الفقاعة معاكساً للوضع الحالي تماما: ذلك أن أغلب العمال المسرحين من قطاع التصنيع الذي شهد انكماشاً سريعاً يمكن توظيفهم بسهولة في قطاعات البناء والخدمات الاجتماعية، التي تتطلب مهارات قليلة (وعلى نحو مماثل فإن الخدمات العقارية لا تتطلب سوى مهارات عامة).

والنقطة الأساسية هنا ليست أن وظائف التصنيع أفضل من غيرها على نحو أو آخر، بل إن المسألة هي أننا لابد وأن نضع في الحسبان عدم تساوق عملية التعديل البنيوي. فمن السهل نسبياً أن نتدبر التحول البنيوي بعيداً عن التصنيع أثناء طفرة العقارات، ولكن من الأصعب كثيراً أن نعيد بناء قطاع تصنيع قادر على المنافسة بمجرد فقداننا له.

وعلى هذا فإن اقتصاد ما بعد الفقاعة يواجه حالة من عدم التطابق الجوهري بين المهارات المتاحة بين أفراد قوة العمل الحالية وبين متطلبات قطاع الصناعات الحديثة الموجهة نحو التصدير. ومن المؤسف أن السياسة الاقتصادية عاجزة عن القيام بأي تحرك فعّال لخلق قطاع تصدير قوي في الأمد القريب، ولا تملك إلا العمل على تخفيف الآلام الاجتماعية. والواقع أن مرونة سوق العمل كثيراً ما تُمتدَح بوصفها علاجاً شافياً لكل العلل، ولكن حتى أعلى درجات المرونة في هذا السياق تعجز عن تحويل الموظفين العاطلين في قطاع الخدمات العقارية أو عمال البناء إلى متخصصين مهرة في قطاع  التصنيع. ولقد أكدت التجربة أيضاً أن برامج إعادة التدريب لا تحقق سوى قدر محدود من النجاح.

ومن عجيب المفارقات هنا أن ألمانيا قد تشكل النموذج الأكثر نفعاً في التعامل مع المشاكل التي تواجه صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة. فقد شهدت ألمانيا موجة ازدهار في الاستهلاك والبناء في أعقاب إعادة توحيد شطريها، مع التشغيل الكامل للعمالة وتسجيل عجز في الحساب الجاري. وبعد بلوغ الطفرة ذروتها في عام 1995 تم تسريح مليون عامل في قطاع البناء، ولم يتمكن هؤلاء العمال من العثور على وظائف في قطاعات أخرى. وبالتالي شهد الاقتصاد الألماني عقداً كاملاً من ارتفاع معدلات البطالة والنمو البطيء.

ولم تشكل الصادرات في البداية الطريق إلى التعافي لأن المارك الألماني كان مبالغاً في تقدير قيمته آنذاك، هذا فضلاً عن فقدان بعض القدرات التصنيعية أثناء الطفرة التي شهدتها فترة توحيد شطري البلاد. وأصبحت عبارة "القدرة التنافسية الدولية" شعاراً لعملية صناعة القرار الاقتصادي في ألمانيا. ورغم ذلك فقد استغرقت ألمانيا أكثر من عشرة أعوام قبل أن تبلغ ما بلغته اليوم بوصفها قوة تصديرية كبرى.

ومن غير المرجح أن تكون عملية التعديل والتكيف أسرع كثيراً في الولايات المتحدة، حيث تقلصت القاعدة التصنيعية بشكل أكثر حِدة. فضلاً عن ذلك فقد استفادت ألمانيا مع اعتماد اليورو بميزة ربط عملتها بمنطقة جنوب أوروبا، التي شهدت آنذاك ازدهاراً في قطاع الإسكان، ولعل ذلك الازدهار كان أكثر تطرفاً مما كان عليه في الولايات المتحدة، الأمر الذي عمل على تزويد المصدرين الألمان بأسواق متنامية وتعريضهم لأقل قدر من المنافسة. وعلى النقيض من ذلك سنجد أن الدولار الأميركي مربوط بالرنمينبي، وهي العملة التي تتمتع الدولة المصدرة لها ـ الصين ـ بقطاع التصدير الأضخم والأسرع نمواً على مستوى العالم.

ولكن كم من الوقت قد تستغرق عملية التعديل والتكيف في الولايات المتحدة؟ منذ بلوغ الفقاعة ذروتها لم يكن الاقتصاد الأميركي يتحرك حتى في الاتجاه الصحيح. والواقع أن الانكماش في الناتج الصناعي وتشغيل العمالة شهد تسارعاً ملحوظاً ـ بل كان أسرع من هبوط الناتج وتشغيل العمالة في القطاعات التي ما زال الاقتصاد معتمداً عليها في تحقيق قدر كبير من نموه: الخدمات المحلية مثل الرعاية الصحية، والتمويل، والتأمين، والخدمات العقارية (القطاع المسؤول عن اندلاع الأزمة).

وما دام هذا الاتجاه مستمراً فإن دعم الطلب المحلي لن يتسنى إلى من خلال جرعات عالية ومتواصلة من التوسع الضريبي والنقدي. وبما أن العديد من السلع لم تعد تنتج في الولايات المتحدة فإن تدابير التحفيز سوف تعمل على امتصاص المزيد من الواردات، وتقويض التوازن التجاري إلى حد أعظم. لا شك أن تحقيق التعافي القادر على دعم ذاته أمر ممكن، ولكن هذا يستلزم فرض تعديلات بنيوية هائلة تهدف إلى استعادة القدرة التنافسية للولايات المتحدة في الأسواق العالمية.

https://prosyn.org/Xtu6FtUar