Malik2_getty images

قصة شرقين أوسطين

لندن ــ أسفر ارتفاع أسعار السلع الأساسية إلى عنان السماء، والذي يؤثر على البلدان النامية، عن فائزين وخاسرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ تشهد البلدان الغنية بالموارد في المنطقة، والتي تُـعَـد بين أكبر الدول المصدرة للنفط والغاز في العالم، مكاسب غير متوقعة في الإيرادات. أما البلدان المستوردة للنفط مثل مِـصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس، فقد تسبب ارتفاع أسعار الطاقة في إجهاد ميزانياتها الوطنية إلى الحد الأقصى وزيادة عجز حساباتها الجارية.

لا شك أن تقلبات أسواق النفط العالمية ليست حدثا جديدا على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن المنطقة تعرضت لسلسلة من الصدمات في السنوات القليلة الأخيرة، بما في ذلك الاحتجاجات الجماهيرية في الجزائر والعراق ولبنان في عام 2019، والتوترات الجيوسياسية بين المملكة العربية السعودية وقطر، وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، والآن المزيد من ارتفاعات أسعار النفط والمواد الغذائية نتيجة لغزو روسيا لأوكرانيا.

في الشرق الأوسط، يشكل النفط والقمح ثروات الدول الاقتصادية والسياسية. تزود الحكومات المواطنين باستحقاقات الرفاهة الاجتماعية السخية، بما في ذلك الوظائف في القطاع العام وإعانات دعم الطاقة والغذاء. وتشكل هذه الالتزامات التوزيعية في نهاية المطاف جزءا من صفقة استبدادية يسلم بموجبها الحكام الرفاهة الاجتماعية في مقابل رضاء المواطنين، إن لم يكن دعمهم. وتكمن إعانات دعم الوقود والغذاء في صميم هذا العقد الاجتماعي، الذي يُـمَـوَّل من خلال دخل مولد خارجيا مثل عائدات النفط، والمساعدات، والتحويلات المالية من الخارج.

عودة إلى الصحة المالية

بالنسبة إلى الدول المصدرة للنفط في المنطقة، يعني ارتفاع أسعار النفط انتعاش الإيرادات بعد ركود استمر قرابة عقد من الزمن. فبعد انهيار أسعار النفط في عام 2014، واجهت معظم الدول المنتجة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صعوبة في ضبط ميزانياتها بعد انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الحد الأدنى المطلوب لذلك. واضطرت حتى أكثر دول مجلس التعاون الخليجي ثراء إلى اختصار النفقات، والسيطرة على الإنفاق، والسحب من مدخراتها. ومع زيادة أسعار النفط بأكثر من 50% منذ مارس/آذار 2021، انحسرت هذه المتاعب المالية، وساعدت المكاسب النقدية الضخمة غير المتوقعة في تجديد الاحتياطيات.

كان لارتفاع أسعار النفط التأثير الأكثر حسما على اقتصادات النفط المتعثرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل الجزائر والعراق. حتى وقت قريب، كانت عائدات النفط في كل من البلدين غير كافية على نحو متزايد للوفاء بالتزامات التوزيع الملقاة على عاتق الحكومة تجاه الشباب والسكان المتزايدين. لمواجهة تحدياتها المالية، اضطرت الجزائر إلى استخدام الاحتياطيات المالية التي جمعتها أثناء طفرة النفط السابقة في الفترة من 2008 إلى 2014. وبعد هبوط احتياطيات الجزائر من النقد الأجنبي من 122 مليار دولار في عام 2016 إلى 42 مليار دولار في أوائل 2021، بدأت الخيارات المتاحة للنظام تنفد بسرعة. لكن حرب أوكرانيا غيرت التوقعات بشكل جذري. فمع تدفق مليارات الدولارات من عائدات المواد الهيدروكربونية (النفط والغاز)، حصلت الأوليجاركية (حكومة القِـلة) القوية والغامضة في الجزائر على فرصة جديدة للحياة.

SPRING SALE: Save 40% on all new Digital or Digital Plus subscriptions
PS_Sales_Spring_1333x1000_V1

SPRING SALE: Save 40% on all new Digital or Digital Plus subscriptions

Subscribe now to gain greater access to Project Syndicate – including every commentary and our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – starting at just $49.99.

Subscribe Now

واستفاد العراق من انقلاب مماثل في حظوظه. في عام 2020، تسببت الجائحة وهبوط أسعار النفط في خفض الدخل الوطني إلى النصف. وعلى الرغم من كونه خامس أكبر مصدر للنفط على مستوى العالم، كان العراق يناضل لسداد رواتب موظفي الحكومة. لكن الارتفاع العالمي الذي شهدته أسعار النفط ساعد في تمكين العراق من جني 62 مليار دولار من العائدات في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، وهذا أعلى متوسط شهري حققه منذ عام 1972. لكن من الواضح أن العراق لم يخرج من دائرة الخطر بعد بسبب الفساد المستشري، والبنية الأساسية المتداعية، والسياسة المتصدعة. لكن صدمة معدلات التبادل التجاري الإيجابية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط سحبت العراق من حافة الهاوية الاقتصادية.

في عام 2019، حشدت حركات الاحتجاج الشعبية في الجزائر والعراق أعدادا كبيرة من الناس، معظمهم من الشباب، الذين فقدوا الثقة في قادتهم. بدأت الاحتجاجات تزعزع أركان النظام في البلدين، لكنها انحسرت بعد ذلك، في مستهل الأمر بسبب الجائحة ثم بعد انتعاش عائدات النفط.

في الوقت الحالي على الأقل، تمكنت الجزائر والعراق من تثبيت أسعار المواد الغذائية وتوجيه الموارد إلى برامج دعم توظيف الشباب. كما أفضى ارتفاع أسعار النفط العالمية إلى تجديد الميزانيات الحكومية في بلدان مثل عُـمان والبحرين، حيث الموارد المالية العامة أكثر هشاشة، لأن صادراتها من النفط تتضاءل مقارنة بصادرات كبار منتجي النفط في دول مجلس التعاون الخليجي.

الشعور بضائقة أسعار السلع الأساسية

في حين تُـعَـد أسعار النفط المرتفعة نعمة للبلدان المصدرة للنفط، فإنها مصدر أذى للبلدان التي تفتقر إلى الموارد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث الموارد المالية محدودة لكنها تظل في احتياج إلى دعم الوقود والغذاء لأسباب سياسية. الواقع أن إنفاق بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على إعانات الدعم هذه يتجاوز المتوسط في البلدان النامية، وتُـوَزَّع نصف إعانات دعم الطاقة العالمية على مستوى العالم في الشرق الأوسط. تزيد أسعار النفط المرتفعة من الصعوبات التي تواجهها البلدان المستوردة للنفط في المنطقة في محاولة الحفاظ على مستويات الدعم القائمة مسبقا. ومن الواضح أن هذا، إلى جانب تسارع التضخم ونقص الغذاء، يشكل مزيجا قابلا للانفجار.

تُـعَـد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واحدة من أكثر مناطق العالم اعتمادا على الواردات من المواد الغذائية، حيث تبرز مِـصـر باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالم. تكافح بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تفتقر إلى مداخيل النفط الكبيرة لاحتواء أسعار المواد الغذائية الأساسية، وخاصة القمح ــ الذي أثرت أسعاره لفترة طويلة على درجة الحرارة السياسية في الشارع العربي.

تنبئنا الكيفية التي تتعامل بها هذه الاقتصادات المناضلة مع صدمات السلع الأساسية العالمية بالكثير عن اقتصادها السياسي الأساسي. يعتمد استقرار الأنظمة الاستبدادية في الاقتصادات التي تفتقر إلى الموارد لكنها ذات أهمية استراتيجية مثل مصر والأردن على الدعم من جاراتها في منطقة الخليج الأكثر ثراء والتي تضمن فعليا العقود الاجتماعية في هذه الدول.

تغيرت طبيعة هذا الدعم الإقليمي من المساعدات النقدية العامة إلى الاستثمارات المشتركة والودائع في البنوك المركزية. على سبيل المثال، تأسس صندوق الاستثمار السعودي الأردني بقيمة 3 مليارات دولار في  عام 2017 (وتم تفعليه مؤخرا). بينما يستهدف الصندوق دعم المشاريع الاستثمارية في الأردن، فسوف تساعد التدفقات المالية المرتبطة به في دعم احتياطياته من النقد الأجنبي. في إبريل/نيسان 2022، حولت المملكة العربية السعودية 50 مليون دولار إلى الأردن كجزء من حزمة مساعدات أكبر بقيمة 2.5 مليار دولار من المملكة، والإمارات العربية المتحدة، والكويت.

تقدم مِـصـر، مع احتياجاتها الأكبر كثيرا من التمويل الخارجي، مثالا أكثر وضوحا. في غياب الدعم من جيرانها الأغنياء في الخليج، كانت مِـصر لتواجه صعوبة كبيرة في تلبية متطلبات استيراد القمح والنفط. بعد فترة وجيزة من اندلاع الأزمة التي أحدثها غزو روسيا لأوكرانيا، والتي بدأت تؤثر بشدة على مِـصر، انطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، حيث تلقى تعهدات متجددة بالدعم المالي.

حصلت مِـصر بالفعل على نحو 22 مليار دولار في هيئة التزامات بالاستثمار والودائع في البنك المركزي من المملكة العربية السعودية، وقطر، والإمارات العربية المتحدة. ولتخفيف الضغط المباشر عن تمويل الواردات من القمح، بادرت المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة ومقرها المملكة العربية السعودية إلى مضاعفة حدها الائتماني الممنوح لـمِـصر من 3 مليارات دولار إلى 6 مليارات دولار. تُـظـهِـر آليات الدعم الإقليمية هذه الأهمية التي توليها دول مجلس التعاون الخليجي الغنية للاستقرار السياسي في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة وأن انعدام الاستقرار في أي دولة مجاورة من المحتمل أن ينتشر إلى دول أخرى.

الواقع أن الحرب الدائرة في أوكرانيا وما ترتب عليها من صدمات السلع الأساسية تسببت في زيادة الثِـقَـل الجيوسياسي للدول الغنية بالنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولأن أمن الطاقة أصبح مصدرا أساسيا للقلق في أوروبا والولايات المتحدة، فقد اكتسبت الدول الرائدة في إنتاج الطاقة في الشرق الأوسط أهمية جديدة في النظام العالمي. ويصدق هذا، ليس فقط على دول مجلس التعاون الخليجي مثل المملكة العربية السعودية وقطر، بل وأيضا الجزائر، التي تزود أوروبا بنحو 11% من وارداتها من الغاز الطبيعي. مع تراكم المكاسب النفطية غير المتوقعة، تعمل صناديق الثروة السيادية في المنطقة على بناء احتياطياتها ومحافظها الاستثمارية، والعديد منها تشهد حاليا فورة من الإنفاق العالمي.

يزعم المشككون أن أسعار النفط الأعلى، من خلال تخفيف القيود المفروضة على ميزانيات الدول المنتجة للطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من شأنها أن تقلص الحافز لإجراء إصلاحات اقتصادية كبرى. لكن البلدان المستوردة للطاقة في المنطقة، والتي تواجه تهديدات متجددة للاستقرار الاجتماعي والسياسي، يتعين عليها أن تتصدى لتحديات أعظم كثيرا.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/MYQk7Zzar