skidelsky128_addams_25.06.2018 Project Syndicate

قيم بوتن العائلية

لندن ــ من الواضح أن التركيز المفرط على بطولة كأس العالَم الجارية، والتي يتوقع في إطارها أن يلتقي في موسكو وغيرها من المدن الروسية ما يقدر بنحو مليون مشجع أجنبي لكرة القدم، وكثيرون منهم من أوروبا والولايات المتحدة، يهدد بحجب مدى التباعد بين روسيا والغرب. والواقع أن العلاقات بين الجانبين في الوقت الحاضر وظيفية بحتة؛ فقد بدأت حرب باردة جديدة.

تُرى هل كان الأمل في "انضمام روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي إلى الغرب" مجرد وهم منذ البداية؟ يحفر بعض الباحثين في عمق التاريخ الروسي في محاولة لإيجاد ما يدعم هذا الاستنتاج، فيستحضرون نير التتار وغياب "التنوير". ويرى آخرون هذه القطيعة من منظور أكثر عَرَضية.

على سبيل المثال، في كتابه الأخير بعنوان "الصين وروسيا: التقارب الجديد"، يزعم عالِم السياسة الروسي ألكسندر لوكين أنه برغم أن مظالم الصين الإقليمية مع روسيا أكثر من أي دولة أخرى، فإن تحول الكرملين تجاهها كان "نتيجة طبيعية". فقد سعت روسيا، كقوة عظمى مقهورة، إلى خلق ثِقَل موازن للطرف المنتصر.

لم يكن ذلك قدرا محتوما. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كان أمام الغرب، كما يقول لوكين، خياران: فإما أن يبذل محاولة جادة لدمج روسيا في العالَم الغربي من خلال إدخالها في منظمة حلف شمال الأطلسي وتقديم خطة مارشال جديدة، أو يقتطع قطعة تلو الأخرى من ما يسميه "مركز العالَم المعادي". ويقول لوكين إن قادة الغرب استقروا على الخيار الثاني، فعملوا على توسيع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، في حين تجاهلوا الليبراليين الروس الذين حذروا من أن هذه السياسات من شأنها أن تعزز السلطوية الروسية.

في هذه الرواية، علينا أن ننظر إلى ردود الفعل الروسية على أنها دفاعية إلى حد كبير. وبالتالي فقد "ضمت روسيا شبه جزيرة القرم ردا على محاولة حلف شمال الأطلسي الواضحة للتحرك بالقرب من حدود روسيا أكثر مما ينبغي ودفع الأسطول الروسي إلى الخروج من البحر الأسود". ولكن مدى وضوح هذا التفسير أمر مفتوح للمناقشة: فلم تدع أي قوة كبرى داخل حلف شمال الأطلسي إلى ضم أوكرانيا إلى عضويته، ولم يطلب قادة أوكرانيا هذه العضوية.

الواقع أن لوكين نصير للمذهب "الواقعي" في التعامل مع العلاقات الدولية، والذي يشير إلى أن الدول ذات السيادة ستحاول دوما تنظيم علاقاتها وفقا لمبدأ توازن القوى. ولم تكن الجهود التي بذلها الغرب لترسيخ انتصاره في الحرب الباردة أقل قابلية للتكهن بها من جهود روسيا لعكس هذه الجهود.

SPRING SALE: Save 40% on all new Digital or Digital Plus subscriptions
PS_Sales_Spring_1333x1000_V1

SPRING SALE: Save 40% on all new Digital or Digital Plus subscriptions

Subscribe now to gain greater access to Project Syndicate – including every commentary and our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – starting at just $49.99.

Subscribe Now

على النقيض من ذلك، كان الرأي في عموم الغرب أن الدول تتصرف الآن، أو ينبغي لها أن تتصرف، وفقا لمبادئ القانون الدولي. وهذه مناقشة قديمة. ففي دراسته الكلاسيكية في عام 1939 بعنوان "أزمة العشرين عاما"، زعم المؤرخ ئي. إتش. كار أن القوى "الراضية" كانت دائما تعتنق القانون الدولي، لكن القوى التي تأمل في تغيير النظام الدولي لصالحها كانت تتحداه دوما.

واليوم، يفرض الغرب العقوبات على روسيا لانتهاكها القانون الدولي، في حين تتهم روسيا الغرب بمحاولة تقطيع أوصال "فضائها". ولن تنتهي الحرب الباردة الجديدة قبل أن يتخلى الغرب عن طموحاته أو تتخلى روسيا عن طموحاتها، أو قبل أن يرى الجانبان مصالح مشتركة كبرى.

في كتابه "روسيا واليمين المتطرف الغربي"، يقدم الأكاديمي الأوكراني أنطون تشيخوفستوف تفسيرا مختلفا لكنه محتمل بنفس القدر لتباعد روسيا عن الغرب. فهو يرى في ذلك التباعد استجابة ناجمة عن جنون الشك والاضطهاد من قِبَل "الحكومة الفاسدة السلطوية" في روسيا لمحاولات الغرب الفاترة للدفاع عن استقلال الدول ذات السيادة الجديدة مثل أوكرانيا وجورجيا. وقد نسج الرئيس الروسي فلاديمير بوتن سردا يصور هذه الجهود على أنها تهديد للفضاء الروسي المتكامل والروح الروسية.

من منظور بوتن، جاءت نقطة التحول مع "الثورات الملونة"، في 2004 في أوكرانيا وفي 2008 في جورجيا. لكن ما لم يفسره تشيخوفستوف هو كيف تمكنت "الحكومة الفاسدة السلطوية" من ترسيخ نفسها ولماذا لا تزال تتمتع بشعبية بين أغلب الروس.

جزء من السبب لابد أن يكون اقتصاديا. فقد تبنى الإصلاحيون الروس بلهفة الليبرالية الاقتصادية في نهاية ثمانينيات القرن العشرين. ولم تكن تلك الليبرالية الاقتصادية قريبة من اقتصاد جون ماينارد كينز الأقدم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بل كانت أقرب إلى نيوليبرالية ميلتون فريدمان ومارجريت تاتشر. وكانت النتيجة المباشرة لمحاولة تطبيق هذه المبادئ في روسيا الانهيار الاقتصادي.

الحق أن الإصلاحيين، برئاسة يجور جيدار أول رئيس وزراء روسي بعد الشيوعية، واجهوا اختيارات مروعة، حيث كادت دولة ما بعد الشيوعية تتفكك. ومع ذلك، قادهم إيمانهم العميق بالخصخصة، والأسواق غير المقيدة، والمدرسة النقدية، إلى البيع المتعجل للأصول، والإلغاء المتهور للضوابط التنظيمية، والانكماش الوحشي. ومن رحم هذه الكارثة الاقتصادية ولِدَ حكم بوتن الفاسد.

من خلال تبني النيوليبرالية الاقتصادية دون هوادة، خسر الليبراليون السياسيون في روسيا أي فرصة لوراثة حق خلافة الشيوعية. وربما يكون بوسعنا أن نقول إن الوقت المتاح لليبراليين كان قليلا للغاية. ولكن في كل الأحوال، كان الضرر السياسي الذي أنزلوه بالقضية الليبرالية أعظم من أن يمكن إصلاحه بفِعل التعافي الاقتصادي في وقت لاحق.

كان كتاب تشيخوفستوف مثيرا للاهتمام بشكل خاص بسبب سرده للكيفية التي صنع بها نظام بوتن والشعبويون المنتمون إلى اليمين المتطرف في أوروبا عدوا مشتركا في هيئة النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ويشجعه الاتحاد الأوروبي. وفي مركز الشبكة العنكبوتية التي يتخيلها الشعبويون يجلس مخلوق يدعى "الرأسمالية المالية". وفي تجاهل لقضايا مثل الحدود والوظائف، تحالف ذلك المخلوق مع نخبة ليبرالية تدفع بأجندة تدعو إلى فرض الزواج من نفس الجنس وغير ذلك من "الموبقات" المفترضة على سكان "أصحاء". ومنذ الفترة 2011-2012، كان بوتن، التكنوقراطي الانتهازي المحض في بداية حكمه، حريصا على جعل هذا الخطاب سمة له.

ويزعم تشيخوفستوف أن صعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا أعطى نظام بوتن لأول مرة محاورين غربيين أقوياء. ويتذكر ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة في إيطاليا ووزير الداخلية الآن في الحكومة الائتلافية الإيطالية، الأجواء المريحة لاجتماعه مع بوتن في عام 2014: "تحدثنا عن العقوبات العبثية ضد روسيا والتي فرضها الاتحاد الأوروبي الجبان الذي لا يدافع عن مصالح مواطنيه، بل مصالح القِلة الاقتصادية. كما تحدثنا عن مواضيع مهمة تراوحت بين حماية الاستقلال الوطني إلى مكافحة المهاجرين غير الشرعيين والدفاع عن القيم التقليدية".

وعلى هذا فإن القيم الروسية والغربية تتقارب، على الأقل بين بعض الناس في الغرب. فمنذ الانهيار الاقتصادي في الفترة 2008-2009، كانت العولمة والقواعد والأعراف الاقتصادية الداعمة لها موضع طعن، ليس فقط من قِبَل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بل وأيضا من جانب الشعبويين الذين دخلوا إلى التيار الأوروبي الرئيسي. وكل من صوتوا لصالحهم يشعرون بأنهم "تُرِكوا وراء الركب" ليس اقتصاديا فحسب بل وأيضا على المستوى الثقافي. ولهذا، نرى الآن ذلك الاندماج الغريب بين سياسات الحماية والمحافظة المسيحية.

كان لكل هذا وقع الموسيقي على أذني بوتن، لأنها تشير إلى الغرب الذي لم يعد يعارض بحقد ممارسات نظامه. ولا عجب أن الكرملين كان يغازل ــ ويمول ــ الأحزاب الشعبوية في مختلف أنحاء أوروبا.

الواقع أن التحالف التكتيكي بين الكرملين والشعبويين يضخم حلم إقامة اتحاد إيديولوجي يمتد "من لشبونة إلى فلاديفوستوك"، ولا يستند إلى القيم الغربية بل إلى القيم "الأوراسية". وينبغي لانتقال مثل هذه المشاريع الجيوسياسية من الهوامش إلى التيار الرئيسي أن يجعل الجميع يتوقفون ويعيدون النظر في مواقفهم.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

https://prosyn.org/PynIXewar