عوالم متباعدة

أدت سياسات الاقتصاد الشامل، والعولمة المالية، والتغييرات التي طرأت على مؤسسات سوق العمالة إلى تفاقم التفاوت خلال العقود الأخيرة، ليس فقط فيما يتصل بالدخل والثروة، بل أيضاً فيما يرتبط بالحصول على حق التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية، علاوة على المشاركة السياسية والنفوذ السياسي. وحتى في داخل الدول التي تشهد نمواً اقتصادياً سريعاً، سنجد هناك مجموعة من العوامل المتفاقمة نتيجة لتغييرات ديموغرافية هائلة، تتعاون على انتقال التفاوت في المعرفة، والمسئولية الاجتماعية، والفرص في الحياة من جيل إلى الذي يليه.

فطبقاً للتقييم الوارد في تقرير الأمم المتحدة، والذي أطلقت عليه "مأزق التفاوت"، هناك عدد قليل من الدول، سواء كانت غنية أو فقيرة، التي أظهرت حصانة ضد الاتجاه العالمي السائد نحو ارتفاع معدلات التفاوت، أو ما يترتب على ذلك التفاوت من عواقب في مجالات التعليم، والصحة، والأمان الاجتماعي.

من المؤكد أننا لن نجد علاقة عرضية بسيطة تربط بين الفقر والتفاوت من ناحية وبين العنف من ناحية أخرى. لكن التفاوت يشتمل على شعور بالحرمان يساهم في تفاقم الاستياء والسخط وانعدام الاستقرار الاجتماعي، ويهدد الأمن. والحقيقة أن المستبعدين والذين تنتظرهم حياة بائسة، من الشباب بصورة خاصة، يمرون بحالة من التغريب وتآكل القيم، الأمر الذي قد يدفعهم إلى سلوكيات مناهضة للمجتمع، بما في ذلك العنف.

فضلاً عن ذلك فإننا لن نجد تفسيراً بسيطاً للأسباب التي تؤدي إلى الفقر. ولكن من الواضح أن الفقر ينشأ عن ظروف معقدة متعددة، وأن التخلص من الفقر يتطلب توجهاً متعدد الأبعاد. فمن الصعب أن نتخيل على سبيل المثال كيف نجعل من الفقر مجرد ذكرى دون أن نعمل أيضاً على توفير قدر كبير من فرص العمل اللائقة، وفرص التعليم، والرعاية الصحية للجميع.

مما لا شك فيه أن العالم قد شهد تقدماً على بعض الجبهات خلال العقود الأخيرة. فقد تحسنت معدلات تعليم الإناث، كما تم سد بعض الفجوات في الحقوق بين الذكور والإناث. وعلى الرغم من الإيدز وعودة الملاريا والسل إلى الظهور من جديد، إلا أن متوسط العمر المتوقع للإنسان قد ارتفع في العديد من بلدان العالم بسبب أنظمة الرعاية الصحية المحسنة. لكننا سنجد أن فجوة التفاوت بين الناس أصبحت ضخمة، بل وفي اتساع في العديد من الحالات.

إن العامل الأكثر أهمية اليوم فيما يتصل بالتفاوت في الدخل، يتلخص في التفاوت في الثروة، حيث أن التركيز المتزايد لملكية الأصول خلال السنوات الأخيرة كان مسئولاً بشكل أساسي عن اتساع هوة التفاوت في الدخول في العديد من بلدان العالم. وفي ذات الوقت أدى ارتفاع معدلات البطالة واتساع الهوة في المهارات والإنتاجية، فضلاً عن المسحة غير الرسمية التي اكتسبتها أسواق العمالة، إلى تفاقم التفاوت في الدخل في كافة أنحاء العالم، مع تزايد أعداد "الفقراء العاملين" وانتشار "النمو في غياب فرص عمل".

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

بالإضافة إلى ما سبق فقد فشلت البرامج الرامية إلى الإصلاح البنيوي وإيجاد التوازن الاقتصادي، التي فرضت منذ ثمانينيات القرن العشرين، في إنجاز وعودها برفع معدلات النمو الاقتصادي. والحقيقة أن معدلات النمو في العديد من بلدان العالم خلال ربع القرن الماضي كانت أبطأ من نظيراتها خلال ربع القرن الذي سبقه، على الرغم من تسارع النمو في شرق آسيا، والهند، وعدد قليل من البلدان الأخرى.

وهذا التباين في النمو يشير إلى أن التفاوت العالمي في الإجمال ربما لم يتفاقم بصورة واضحة. لكن التفاوت على المستوى الوطني ازداد عمقاً في أغلب بلدان العالم خلال الأعوام الأخيرة، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى تحرير الاقتصاد على المستويين الوطني والدولي. والحقيقة أن مثل هذه الإصلاحات الاقتصادية قد أدت في الكثير من بلدان العالم إلى إضعاف معدلات النمو، فضلاً عن إعاقة الدور التقدمي الذي يفترض أن تضطلع به الحكومات، بينما أدت من ناحية أخرى إلى تزايد التفاوت الإجمالي.

إذا ما كانت هناك بعض الاستثناءات فإنها ترجع بصورة كبيرة إلى استمرار بعض الحكومات في الاضطلاع بدورها التقدمي، بل وفي بعض الأحيان ابتكار المزيد من التدخلات الحكومية التقدمية. لكنها استثناءات كما قلنا: فالتأثير التراكمي لهذه الإصلاحات طيلة ربع القرن الماضي يتمثل في تفاقم التفاوت في أغلب الدول المتقدمة والنامية، مع ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد التفاوت في الدخول الشخصية، وتقلص الحماية الاجتماعية، والتدهور البيئي.

فقد أدى تحرير التعاملات المالية على الصعيد الدولي على سبيل المثال إلى تقويض فرص استخدام أرصدة التنمية الأكثر شمولاً وتحديداً في تشجيع الأنشطة الاقتصادية المرغوبة. فضلاً عن ذلك، وعلى النقيض من الوعود التي بذلها مناصرو تحرير التعاملات المالية، فقد نتج عن ذلك التحرير في واقع الأمر تدفق رؤوس الأموال، على الأمد البعيد، من الدول التي تفتقر بالفعل إلى رأس المال إلى الدول الغنية به ، بينما أدى إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار المالي وإضعاف النشاط الاقتصادي.

وفي ذات الوقت، يبدو أن مفاوضات التجارة الحرة تتجاهل الميول والعوامل التاريخية. فقد أصبحت الشروط الدولية بالنسبة للدول النامية أكثر سوءاً فيما يتصل بالتجارة: فقد هبطت أسعار السلع الأساسية مقارنة بالسلع المصنعة، كما انخفضت أسعار المنتجات الزراعية القادمة من المناطق الاستوائية مقارنة بنظيراتها القادمة من المناطق المعتدلة، كما انخفضت أسعار المصنوعات التي لا تحمل اسماً تجارياً مقارنة بالمصنوعات المحمية بموجب حقوق الملكية الفكرية.

ونتيجة لهذا فقد أدى التحرير التجاري للمصنوعات إلى انهيار التصنيع والمزيد من البطالة في العديد من بلدان العالم، كما حدث بالنسبة للملابس هذا العام. وعلى الرغم من أن تحرير التجارة الزراعية قد يؤدي إلى تعزيز مكاسب التصدير بالنسبة لبعض الدول الفقيرة، إلا أن المستفيدين الرئيسيين سيصبحون مصدرين زراعيين أكثر ثراءً. أما الدول التي تستورد سلعاً غذائية مدعمة في الوقت الحالي فلسوف تكون أسوأ حالاً.

إن "تراجع الدولة" في العديد من البلدان النامية أثناء العقود الأخيرة قد اشتمل على تراجع عام في دور الحكومات، بما في ذلك قدرتها على قيادة ودعم التنمية، فضلاً عن التدخلات الاجتماعية التقدمية في مجالات مثل التعليم العام، والصحة، والإسكان، والمرافق.

كما أن سياسة التحرير الاقتصادي التي تبنتها العديد من دول العالم خلال ربع القرن الماضي كانت معيبة منذ البداية، ولقد أصبحت عواقب هذه السياسة في غاية الوضوح الآن. وما لم يبادر العالم إلى إعادة توجيه السياسات الاقتصادية لمواجهة الآثار السيئة الناجمة عن التفاوت الاقتصادي، والتي أصبحت تهدد النمو وتعوق فرص تقليص الفقر، فلسوف تستمر عوالم الفقراء وعوالم الأغنياء في التباعد.

https://prosyn.org/9WKdNyhar