فتح مسار عبر الدماغ

مدريد ــ إن دماغ البشر أشبه بغابة كثيفة ــ تضاريس معقدة ويبدو اختراقها مستحيلاً من الخلايا العصبية المتفاعلة التي تلعب دور الوسيط لتيسير عمليات الإدراك والسلوك. ويتمثل التحدي الأكبر في كشف أسراره الغامضة، بمعنى التعرف على بنية الخلايا العصبية والكيفية التي تتصل بها وترتبط فيما بينها. ولكن إلى أي مدى اقتربنا من تحقيق هذا الهدف.

بشكل عام، يتم تبادل المعلومات بين مليارات من الخلايا العصبية التي تشكل الغابة العصبية من خلال نوعين من الهياكل الشديدة التخصص: المشابك العصبية الكيميائية (الأغلبية) وما يسمى نقاط اتصال الفجوات (ركيزة تتألف من فئة واحدة من المشابك الكهربائية). ويشتمل انتقال التشابك الكيميائي على إطلاق جزيئات محددة، وهي الناقلات العصبية، التي تنتشر خلال الفضاء بين الخلوي وتتفاعل مع مستقبلات محددة توجد على الخلايا العصبية المجاورة. وفي عملية النقل الكهربائي التي تتم عن طريق نقاط اتصال الفجوات، تفصل بين أغشية البلازما للخلايا العصبية المجاورة فجوات يبلغ طولها نحو اثنين نانومتر (2 من مليار من المتر)، ولكنها تحتوي على قنوات صغيرة (نقاط اتصال الفجوات) التي تربط السيتوبلازم في الخلايا العصبية المتجاورة، على النحو الذي يسمح بنشر جزيئات صغيرة وتدفق التيار الكهربائي.

وتكمن المشكلة الكبرى عند تحليل الدماغ في التعقيد الشديد الذي يميز الارتباطات المتشابكة. فهناك شبكة شديدة الكثافة من العمليات التي تدور في المساحة بين أجسام الخلايا العصبية، والنسيج العصبي الضام (الخلايا التي تدعم وتحمي الخلايا العصبية)، والأوعية الدموية. وتشكل هذه المساحة (اللبد العصبي) من 90% إلى 98% من حجم القشرة الدماغية في البشر، حيث يوجد ما يقدر بنحو مليار مشبك عصبي في كل مليمتر مكعب من اللبد العصبي.

وكأن هذا لا يجعل وظيفة مخططي الدماغ صعبة بالقدر الكافي، فهناك أيضاً مجموعة متنوعة واسعة النطاق من العلاقات المشبكية التي تم رصدها. وقد لا يكتفي الناقل العصبي بنشر العلاقات المشبكية الأخرى والعمل عليها، بل إنه يتفاعل أيضاً مع مستقبلات مشبكية إضافية. وعلى نحو مماثل، لا تتم كل عمليات النقل الكهربائي عبر وساطة نقاط اتصال الفجوات، وتشتمل هذه الأشكال على هياكل متخصصة مختلفة. وبالإضافة إلى ذلك، تحدث التفاعلات الكهربائية بين عناصر عصبية متقاربة بشكل وثيق بدون تخصصات واضحة للأغشية.

وعلاوة على ذلك، اقترح البعض أن الخلايا الدبقية تشترك في معالجة المعلومات من خلال إشارات ثنائية الاتجاه تتبادلها مع الخلايا العصبية. ونحن نعرف الآن أن نشاط الدوائر العصبية يتأثر بشدة بفعل الـمُعَدِّلات العصبية (مثل الدوبامين، والسيروتونين، والأسيتيل كولين)، والتي تفرزها مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية وتنشرها خلال مناطق واسعة من النظام العصبي. كما تؤثر الهرمونات العصبية التي تطلقها الخلايا الإفرازية العصبية على العديد من مناطق الدماغ عن طريق الدورة الدموية.

ولكننا رغم كل هذا بدأنا نشق طريقنا عبر هذه الغابة. إن شبكة الدوائر الدماغية ــ "منظومة المشابك العصبية" ــ تشكل الركيزة التشريحية لمجموعة متنوعة من الوظائف التي تتطلب نقل المعلومات بسرعة من نقطة إلى أخرى. وتشكل الدوائر العصبية المشاركة في ردود الفعل الانعكاسية مثالاً نموذجيا ــ حركات تلقائية بسيطة نسبياً وسريعة، تحدث على مستوى اللاوعي. ومن بين الوظائف الأخرى الأشد تعقيداً والتي ترتبط بالمشابك العصبية معالجة المعلومات في دوائر كبيرة ولكنها منفصلة في الجاهزين الحسي والحركي وفي مناطق الدماغ المرتبطة باللغة، والحساب، والكتابة، والاستدلال المنطقي.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

ولكن نظام التعديل العصبي يعمل على دوائر عصبية ومناطق متعددة من الدماغ. ويرتبط هذا الفعل المنتشر بالمزاج الإجمالي وحالة الدماغ (على سبيل المثال، الانتباه، والنوم، والقلق).

وتشكل إعادة البناء السريعة والتلقائية لأحجام ضخمة من الأنسجة، والتي باتت ممكنة بفضل التطورات الأخيرة في تقنيات المجهر الإلكتروني الآلي، الأسلوب المفضل في التعرف على منظومة المشابك العصبية. ولكن حتى باستخدام هذه التكنولوجيا، فإن إعادة البناء الكاملة لدماغ بالكامل أمر غير ممكن إلا في الأجهزة العصبية البسيطة نسبيا. والواقع أنه حتى بالنسبة لحيوان ثديي صغير من الفأر، من المستحيل إعادة بناء الدماغ بالكامل على المستوى التركيبي الدقيق، لأن التكبير اللازم لرؤية المشابك العصبية ينتج صوراً صغيرة نسبيا.

على سبيل المثال، تشير بعض التقديرات إلى أنه إذا كان لنا أن نستخدم قطاعاً من نحو 35 ميكرومتر مربع (الميكرومتر واحد على مليون من المتر) بسمك 20 نانومتر، فإننا سوف نحتاج إلى أكثر من 1,4 مليار قطاع لإعادة البناء الكاملة لمليمتر مكعب واحد من النسيج. لذا، ففي حين يمكن إعادة بناء منطقة صغيرة من دماغ حيوان ثديي، فإن الهياكل مثل القشرة الدماغية ــ التي تبلغ مساحتها السطحية 0,22 متر مربع وبسمك يتراوح بين 1,5 إلى 4,5 مليمتر ــ من غير الممكن إعادة بنائها بالكامل.

ولكن على الرغم من الصعوبات التقنية، فلابد أن يكون بوسعنا أن نحقق تقدماً مذهلاً في الكشف عن التنظيم العضوي للدماغ، حتى في البشر، من خلال تبني الاستراتيجيات المناسبة بالاستعانة بالأدوات المتاحة الآن. على سبيل المثال، برغم أن كثافة التوصيل المشبكي ضمن منطقة معينة وطبقة معينة قد تتباين، فإن هذا التباين يظل في إطار نافذة ضيقة نسبيا، وبهذا يصبح من الممكن وضع نماذج للتوزيع الإحصائي للتباين. وهذا يعني أننا لا نحتاج إلى إعادة بناء طبقة كاملة داخل منطقة بعينها من أجل تحديد العدد المطلق للمشابك العصبية وأنماطها؛ بل إن نطاق التباين يمكن تحديده من خلال أخذ عينات متعددة من مناطق صغيرة نسبياً داخل تلك المنطقة.

ومن خلال الجمع بين هذه البيانات البنيوية التفصيلية والرسوم البيانية الناقصة المتوفرة لدينا عن طريق المجهر الضوئي والإلكتروني، فقد يكون بوسعنا أن ننجح في توليد نموذج إحصائي واقعي، بدلاً من محاولة إعادة بناء الدماغ بالكامل. والواقع أن النماذج الحسابية للشبكات العصبية المستندة إلى دوائر حقيقية أصبحت بالفعل أدوات مفيدة في دراسة جوانب من التنظيم الوظيفي للدماغ.

وبالتالي، فبرغم أن التوصل إلى تحديد منظومة المشابك العصبية الحقيقية في دماغ الثديي يشكل سعياً خياليا، فمن المحتمل أن نتمكن في المستقبل القريب من بناء "قشرة السليكون"، وهي عبارة عن آلة حاسوبية تقوم على نموذج واقعي للتصميم التشريحي والفسيولوجي والجزيئي الكامل للدائرة القشرية. وإذا نجحنا في هذا فسوف نتمكن أخيراً من رؤية الغابة ــ من دون أن نضطر إلى البحث عن كل شجرة.

ترجمة: أمين علي          Translated by: Amin Ali

https://prosyn.org/YqbVeRIar