أميركا المتوازنة

كمبريدج ــ عندما انخفض الحساب الجاري في الولايات المتحدة إلى حد العجز في عام 1982، توقع مجلس المستشارين الاقتصاديين في الولايات المتحدة بدقة عجزاً غير مسبوق لسنوات عديدة، وذلك بسبب عجز الميزانية، وانخفاض معدل الادخار الوطني، والدولار المبالغ في تقدير قيمته. وأكد المتنبئون المخضرمون أن الولايات المتحدة إذا لم توفق أوضاعها فقد تتحول من الدائن الأكبر على مستوى العالم إلى المدين الأكبر على الإطلاق. وأعرب كثيرون مِنّا عن خشيتهم من أن هذه الاختلالات في التوازن غير قابلة للاستمرار، وأنها قد تنتهي إلى "الهبوط الحاد" للدولار إذا سأم المستثمرون العالميون من الاحتفاظ به.

وكانت توقعات المديونية صحيحة. بل إن تقارير مكتب التحليل الاقتصادي في الولايات المتحدة أشارت في كل عام على مدى ثلاثة عقود من الزمان إلى عجز في الحساب الجاري. ولكن يتعين علينا الآن رغم هذا أن نسأل أنفسنا ما إذا كان عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة لا يزال يمثل مشكلة.

بادئ ذي بدء، أعلن المستثمرون العالميون بوضوح في عام 2008 أنهم لا يشعرون بالقلق إزاء استدامة العجز في الولايات المتحدة. وعندما اندلعت الأزمة المالية العالمية، انغمسوا في الأصول الدولارية، حتى برغم أن الأزمة نشأت في الولايات المتحدة.

وعلاوة على ذلك، حدث كَمّ كبير من التكيف في الولايات المتحدة منذ عام 1982 ــ على سبيل المثال، خفض قيمة الدولار في الفترة 1985-1987 والفترة 2002-2007، وخفض الإنفاق المالي في الفترة 1992-2000 والفترة 2009-2014. كما ساعدت الزيادة الكبيرة في الإنتاج المحلي من النفط والغاز الصخريين في تعديل الميزان التجاري مؤخرا.

ونتيجة لهذا فقد ضاقت فجوة عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة في عام 2013 بما يعادل النصف من حيث القيمة الدولارية قياساً على ذروتها في عام 2006، ومن 5.8% إلى 2.4%من الناتج المحلي الإجمالي. وهو انحدار يعادل الثلثين عندما نعبر عنه كنسبة من الناتج العالمي.

كما حدث تعديل مماثل في الصين، عن طريق زيادة القيمة الحقيقية للعملة وارتفاع أسعار الأيدي العاملة والأرض. وقد بلغ فائض الحساب الجاري في الصين ذروته في عام 2008 بأكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي، ومنذ ذلك الوقت تقلص بشكل كبير حتى بلغ 1.9% في العام الماضي. وفي بعض النواحي، جاء التعديل التجاري في الصين شبيهاً بما حدث في اليابان، التي كانت محل التركيز الأصلي كمصدر للقلق التجاري في ثمانينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

وأنا أقترح سبباً ثالثاً ربما يفسر لماذا حان الوقت للتوقف عن القلق بشأن عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة. فربما يكون العجز الحقيقي، إذا قيس بشكل صحيح، أقل مما أشارت إليه التقارير، بل وربما يكون العجز غير وارد على الإطلاق في بعض السنوات.

في كل عام، يستخدم سكان الولايات المتحدة بعض ما يكسبونه من دخل استثماري في الخارج ــ الفائدة على السندات، وتوزيعات الأرباح على الأسهم، والأرباح المحولة إلى الداخل على الاستثمار المباشر ــ لإعادة استثماره بشكل مباشر. على سبيل المثال، تعيد الشركات استثمار أرباحها في الخارج في عملياتها، غالباً لتجنب سداد ضريبة الدخل المرتفعة المفروضة على الشركات في الولايات المتحدة والتي تترتب بشكل غير مباشر على إعادة هذه الأرباح إلى الداخل. ومن الناحية الفنية، لابد أن يسجَّل هذا بوصفه فائضاً أكبر على حساب الدخل الاستثماري، والذي تقابله زيادة في عميات الاستحواذ على الأصول في الخارج. وهي تحسب بشكل صحيح غالبا. ولكن هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن هذه ليست الحال دوما.

لقد تحمل العالم لفترة طويلة عجزاً كبيراً في الدخل الاستثماري، حتى برغم أن الأرقام الصحيحة لابد أن يكون مجموعها صفرا. ومن المؤكد أن الدخل المفقود يذهب إلى مكان ما.

وحتى بالنسبة لمسؤولين يتسمون بالكفاءة العالية مثل أولئك القائمين على مكتب التحليل الاقتصادي، يُعَد تتبع كل رأس المال والتدفقات في الاقتصاد الدولي أمراً مستحيلا. والجميع يعلمون أن الأخطاء وحالات السهو متعددة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمعاملات المالية. ويعمل نقص تمويل الهيئات الإحصائية على تفاقم مشاكل القياس، ولكنه لا يخلقها.

ولكن الأمر الأقل شيوعاً هو ذلك النمط المستخدم في مراجعة موقف الاستثمارات الأميركية الدولية. وتُظهِر البيانات الإحصائية التاريخية المتاحة حالياً أن التقدير الأولي لصافي الموقف الاستثماري الدولي في الفترة من 1982 إلى 2000 تم تعديله نحو الارتفاع بشكل كبير بعد أن علم القائمون على الإحصاء بشأن أصول في الخارج لم يكن بوسعهم معرفتها من قبل بأي وسيلة. ومنذ ذلك الحين، كانت بعض المراجعات اللاحقة إيجابية وبعضها الآخر سلبية. ولكن برغم دراسات المسح الأكثر تكراراً لحيازات المحافظ الاستثمارية في السنوات الأخيرة، فإن بعض عمليات الاستحواذ على الأصول ــ على سبيل المثال، تلك التي يستحوذ عليها رعاة أجانب ــ لم يبلغ عنها حتى الآن في الأرجح.

ومن المحتمل أن تكون الأرقام كبيرة. ذلك أن مجموع عجز الحساب الجاري الأميركي وفقاً للتقارير في الفترة 1982-2013، واستناداً إلى عمليات التنقيح اللاحقة، كان نحو 9.5 تريليون دولار. ورغم هذا فإن التدهور الذي طرأ على الموقف الأميركي الاستثماري الدولي على مدى هذه الفترة لم يكن أكثر من نصف ذلك المبلغ كثيراً (5.7 تريليون دولار إذا قيس نسبة إلى التقدير المعدل لعام 1981).

من المؤكد أن الكثير من التناقض من الممكن أن يُعزى إلى تأثيرات تقدير القيمة: فمنذ عام 1982، ارتفعت القيمة الدولارية للأصول في الخارج بشكل متكرر، وذلك نظراً للزيادات في القيمة الدولارية للعملات الأجنبية والزيادات في قيمة الأصول بالعملات الأجنبية. ولكن جزءاً من التناقض يعكس أيضاً اكتشاف الأصول المفقودة، والذي ربما كان منشأ بعضها إعادة استثمار الدخل في الخارج.

وربما تم اكتساب الأرصدة المفقودة بطرق أخرى أيضا. على سبيل المثال، في بعض الأحيان تبالغ الشركات المتعددة الجنسيات في فواتير الاستيراد أو تقلل من مكاسب الاستيراد المعلن عنها بهدف خفض التزاماتها الضريبية. ومرة أخرى، هذا من شأنه أن يؤدي إلى المبالغة في تقدير عجز الحساب الجاري.

ولنتأمل هنا هذا التوضيح (وأعترف بأنه متطرف). إذا كان الدخل الاستثماري الحقيقي ضعف الوارد في التقارير، وأعيد استثمار الفارق في الخارج في السنوات من 1982 إلى 2000، ولم يتم اكتشاف هذه الأصول إلا في عام 2014، فإن هذا من شأنه أن يفسر نصف التعديل بالزيادة في صافي موقف الولايات المتحدة الاستثماري الدولي.

إذا كان مثل هذا الانتقاص من القيمة الحقيقية المعلنة لمكاسب إعادة الاستثمار أو غير ذلك من أرصدة ميزان المدفوعات قد حدث في الماضي، فلعل نفس الأمر لا يزال يحدث حتى يومنا هذا ــ خاصة وقد أصبحت الشركات الأميركية عدوانية بشأن مراجحة ضريبة الدخل على الشركات. وإذا كان حجم دخل الاستثمارات الحقيقي ضعف الأرقام المعلنة حقا، فإن هذا يعني أن رصيد الحساب الجاري الأميركي الحقيقي دخل الدفاتر في عام 2009 وكان في خانة الفائض منذ ذلك الحين.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/0UQ7JU7ar