شبح مرض جنون البقر

يعلن المتفائلون أن النسخة المتغيرة من مرض كروتزفيلد_جاكوب (CJD)، أو الشكل البشري ـ القاتل في كل الأحوال ـ من المرض المخي الأسفنجي البقري (BSE)، أو "مرض جنون البقر"، في طريقه إلى الانحسار. من المؤكد، نظراً لما أوقعه هذا المرض من انزعاج ورهبة في نفوس عامة الناس، أن تكون الأنباء الواردة باحتمالات تراجعه موضعاً للترحيب. ولكن أهي أنباء صادقة؟

ينتمي مرض كروتزفيلد_جاكوب (CJD) إلى عائلة من الأمراض يطلق عليها "الأمراض البريونية"، وهي تشكل مجموعة فريدة من أمراض تحلل الجهاز العصبي التي تنتقل بالعدوى. وعلى الرغم من أن الطبيعة المحددة لانتقال المرض ما زالت غير مؤكدة، إلا أن الحدث الرئيسي في هذا النوع من الخلل، والذي يتلخص في تحول الخلية السوية لبروتين البريون إلى هيئة غير سوية، يبدو أنه العنصر الأساسي (إن لم يكن الوحيد) في انتقال العدوى.

تم وصف مرض كروتزفيلد_جاكوب (CJD) لأول مرة في عام 1996، بعد أنشطة مراقبة مكثفة قامت بها الوحدة الوطنية لمراقبة مرض كروتزفيلد_جاكوب (CJD) في إدنبيرج بالمملكة المتحدة. ويتسم هذا الشكل الجديد من المرض البريوني بمظاهر سريرية وباثولوجية مميزة، ويصيب المرضى من الشباب المنتمين إلى مجموعة وراثية فرعية واحدة.

ولقد حاولت أنا وزملائي في الوحدة الوطنية لمراقبة مرض كروتزفيلد_جاكوب أن نبرهن على أن هذا الشكل من المرض البريوني البشري من المرجح أن يكون مرتبطاً بالتعرض للعامل المخي الأسفنجي البقري (BSE) من خلال تناول منتجات لحوم مصابة بالمرض المخي الأسفنجي البقري. وفيما بعد أثبتت التحريات أن الوسيلة الناقلة في مرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير تشترك في خواص بيولوجية متطابقة مع عامل المرض المخي الأسفنجي البقري، الأمر الذي دعم العلاقة السببية بين الاثنين.

ظهر المرض المخي الأسفنجي البقري كوباء في المملكة المتحدة بعد تحديد هويته في عام 1986، ومن المرجح أن تكون عدة ملايين من الماشية المصابة بالمرض المخي الأسفنجي البقري قد دخلت إلى السلسلة الغذائية للإنسان منذ عام 1980 وحتى عام 1996. وطبقاً لبعض التقديرات فإن غالبية سكان المملكة المتحدة قد تعرضوا للمرض المخي الأسفنجي البقري عن طريق الطعام خلال تلك الفترة. وتشير الدراسات الوبائية التي أجريت لاحقاً في الوحدة الوطنية لمراقبة مرض كروتزفيلد_جاكوب إلى أن الأفراد المصابين بمرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير ربما تناولوا منتجات اللحوم بمقادير تفوق ما تناوله مرضى المجموعة الحاكمة، وهو الأمر الذي أعطى المزيد من الدعم لفكرة وجود رابطة بين الخللين.

فضلاً عن ذلك فقد أشارت الدراسات الوبائية إلى أن مرض كروتزفيلد_جاكوب قد انتقل على الأرجح إلى الماشية (وثم إلى لأنواع الأخرى) عن طريق وجبات التغذية الحيوانية المكونة من اللحم والعظام التي كانت تنتج في مصانع بالمملكة المتحدة وتصدر إلى العديد من البلدان. ولقد انعكس هذا الشكل من أشكال التجارة في السرعة المتزايدة التي ينتشر بها مرض كروتزفيلد_جاكوب جغرافياً من المملكة المتحدة إلى بلدان أخرى في أوروبا، ومؤخراً إلى اليابان والولايات المتحدة. ومما يدعو للأسف أن يأتي هذا مصحوباً بزيادة أعداد حالات الإصابة بمرض كروتزفيلد_جاكوب في كندا، وفرنسا، وأيرلندا، وإيطاليا، واليابان، وهولندا، والبرتغال، والمملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

ولكن يبدو أن وباء مرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير قد بلغ ذروته في المملكة المتحدة في عام 2000، وهو الآن في انحدار، حيث تم التعرف على 156 حالة إصابة فقط حتى الآن. ولكن من خلال إعادة دراسة تراكمات غير سوية لبروتين البريون في عينات من الزائدة الدودية واللوزتين، أخذت مما يزيد على 12600 شخص في المملكة المتحدة، تم التوصل إلى ثلاث حالات أخرى. وهذا يؤكد أن معدلات الإصابة بمرض كروتزفيلد_جاكوب بين مواطني المملكة المتحدة أعلى كثيراً من الرقم الفعلي لمؤشرات الإصابة المؤكدة بمرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير.

ولكن تُـرى ما الذي يفسر انخفاض أعداد حالات الإصابة المؤكدة في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين على الرغم من تعرض مواطني المملكة المتحدة لمرض كروتزفيلد_جاكوب على نحو مكثف في تلك الفترة؟ يكمن أحد مفاتيح حل هذا اللغز في نتائج الدراسات الخاصة بانتقال المرض المخي الأسفنجي البقري ومرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير بين الفئران، حيث لا تؤدي العدوى في العديد من الحالات إلى الوفاة، بل إنها بدلاً من هذا قد تؤدي إلى "حالة حمل عدوى" صامتة بلا أي أعراض للمرض، حيث لم يبدأ المرض في إظهار نفسه بعد.

فيما بعد تعززت هذه النتائج من خلال دراسة حاكمة مكثفة كان الغرض منها تحديد عوامل المجازفة بالنسبة لمرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير، والتي توصلت مؤخراً إلى تحديد حالتي إصابة انتقلت فيهما عدوى المرض من إنسان إلى إنسان من خلال نقل أنواع خاصة من خلايا الدم الحمراء. وهاتين الحالتين تثيران الاهتمام على نحو خاص، وذلك لأن الحالة الأولى نتج عنها الإصابة السريرية بمرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير (بنفس الأعراض والخواص الباثولوجية النموذجية) بعد ستة أعوام ونصف العام من نقل الدم من المتبرع الذي على الرغم من أنه كان حاملاً صامتاً للعدوى وقت التبرع، إلا أن مرضه تطور لاحقاً ثم توفي متأثراً بمرض كروتزفيلد_جاكوب.

أما الحالة الثانية فقد كانت لمتلقٍ لخلايا دم نقلت إليه من متبرع كان هو الآخر حاملاً صامتاً للمرض وتوفي لاحقاً متأثراً بمرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير، بينما لم تظهر على المتلقي أية أعراض للإصابة بمرض عصبي لكنه توفي لاحقاً لأسباب لا علاقة لها بهذا المرض. ولكن تم استكشاف خلايا بروتين بريوني غير سوية في الأنسجة اللمفاوية للمتلقي، الأمر الذي يؤكد إمكانية انتقال العدوى من حامل صامت للمرض.

تحمل هذه الحالات إشارات ضمنية خاصة بسلامة نقل الدم في كل مكان، وتؤكد ضرورة فرض قيود إضافية على الصلاحية اللازمة للتبرع بالدم وعلى أسلوب معالجة وتناول الدم ومنتجاته. إن الأفراد الذين أصيبوا بعدوى المرض المخي الأسفنجي البقري والذين ظلوا حاملين صامتين للعدوى خلال فترة حياتهم قد يشكلون خطورة على الآخرين من خلال الانتقال الثانوي المحتمل لمرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير عن طريق نقل الدم أو الجراحة.

تنشأ المزيد من الشكوك بشأن مستقبل مرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير بسبب الملاحظة التي تؤكد أن متوسط العمر لدى المصابين بالمرض في المملكة المتحدة لم يتزايد بصورة ملموسة طيلة السنوات العشر الماضية. وإذا ما كان الوباء في انحسار فربما كان من المنطقي أن نتوقع ارتفاع متوسط عمر المصابين بالمرض في مراحله الأخيرة (كما حدث مع الماشية التي أصيبت بعدوى المرض المخي الأسفنجي البقري في المملكة المتحدة). لكن مرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير يؤثر على المرضى في سن أقل كثيراً من المرضى المتفرقين المصابين بمرض كروتزفيلد_جاكوب، وهو الأمر الذي قد يكون راجعاً إما إلى تعرض مرتبط بالسن للمرض المخي الأسفنجي البقري، أو استعداد للإصابة مرتبط بالسن أيضاً.

إلى أن نتوصل إلى الإجابة على هذه الأسئلة فإنه من المبكر أن نقرر ما إذا كنا نشهد الآن بداية نهاية مرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير. بل إن الأمر على العكس من ذلك، حيث أن الحالات التي تم التعرف عليها حتى الآن قد لا تشكل سوى قمة جبل الجليد لا أكثر، مع وجود عدد أكبر من حالات الحمل الصامت للعدوى والتي تشكل خطراً على الصحة العامة من خلال الانتقال الثانوي.

الحقيقة أن الانتقال الثانوي من خلال نقل الدم أو الأدوات الجراحية قد يؤدي حتى إلى تحول مرض كروتزفيلد_جاكوب المتغير إلى مرض مستوطن في المملكة المتحدة. ولسوف يصبح من المستحيل استئصال هذا المرض في غياب الوسائل المحسنة لتنظيف وتطهير الأدوات الجراحية، وفي غياب اختبار محدد ـ من الأفضل أن يعتمد على فحص الدم ـ للتعرف على الحاملين الصامتين لعدوى المرض.

https://prosyn.org/BjMGWUOar