jo4305.jpg

الاعتداء المقدس

نيويورك ـ في اعتذاره غير العادي للكاثوليك في أيرلندا (الذين يشكلون الغالبية العظمى في ذلك البلد)، أوضح البابا بنديكتوس السادس السبب الذي دفعه إلى اعتقاد مفاده أن الكهنة الخاطئين استسلموا لغواية ممارسة الرذيلة مع الأطفال. وكان ذلك راجعاً إلى "تحديات جديدة وخطيرة للعقيدة الإيمانية ناشئة عن التحول السريع وعلمنة المجتمع الأيرلندي. لقد حدثت تغيرات اجتماعية سريعة الخطوات، ولقد أثر ذلك سلباً في أغلب الأحوال على التزام الناس التقليدي بالتعاليم والقيم الكاثوليكية".

وكما نعلم، فإن الاعتداء على الأطفال من قِبَل قساوسة كاثوليك لم يكن مقتصراً على أيرلندا فحسب، بل لقد وقعت مثل هذه الاعتداءات في العديد من البلدان الأخرى أيضاً، وهو أمر يبدو أن البابا فضل عدم الخوض فيه. وأيرلندا ليست المكان الوحيد حيث يشكل التحول الاجتماعي والعلمنة تحدياً قوياً للقيم الدينية. وحين أرجع البابا هذه الاعتداءات الجنسية إلى هذه التحديات، فلعله كان مصيباً ولو جزئياً على الأقل، ولكن ليس للأسباب التي ذكرها.

ففي أيام أكثر تقليدية، ومنذ وقت ليس بالبعيد، حين كانت كلمة الرب هي العليا وكان أغلب الناس يلوذون بكهنتهم (أو قساوستهم أو حاخاماتهم، إلى آخره) طلباً للتوجيه الأخلاقي والروحي، كانت السلطة كثيراً ما توجه الناس نحو سلوكيات جنسية. وربما يعتقد المسيحيون في الخطيئة، وربما نالت القيم التي تبنتها الكنيسة القدر المستحق من الاحترام.

ولكن النفاق منح الناس الأوفر حظاً، بما في ذلك القساوسة والكهنة، قدراً ممن البحبوحة والقدرة على المناورة. فالأثرياء كان لهم عشيقات، وأساتذة الجامعات يقيمون علاقات مع طلابهم، بل وحتى كاهن القرية المتواضع، الرجل الذي يتمتع بسلطة اجتماعية وروحانية، إن لم يكن يتمتع بثراء واسع، كثيراً ما كان يشبع رغباته الجنسية مع امرأة تلازمه لرعاية احتياجاته المنزلية.

كانت مثل هذه الممارسات مقبولة باعتبارها من حقائق الحياة، كما لا تزال في العديد من البلدان الفقيرة والجنوبية، وهو ما قد يفسر لنا لماذا يحدث التعرض للاعتداءات من قِبَل الكهنة في الشمال في أغلب الأحوال، حيث كانت خطوات التغير الاجتماعي أسرع. وربما جعل هذا فكرة العزوبة، التي قد تكون نبيلة رغم أن أغلب الناس يعتبرونها فكرة مثالية مستحيلة، أمراً محتملاً. ففي عصر النهضة في إيطاليا، حتى الباباوات كانوا ينجبون الأطفال.

وكانت حياة النساء في ظل هذه الترتيبات التقليدية تميل إلى الخضوع لقيود محكمة. وباستثناء بعض الدوائر الأرستقراطية الصغيرة المتحررة، حيث كان بوسع النساء أيضاً أن يتخذن عشاقاً غير أزواجهن، فإن دور المرأة كان يتلخص في كونها أماً وراعية لأمور المنزل. أما حقوق الأطفال في أغلب المجتمعات التقليدية، وقبل التغيرات التي شجبها البابا، فكانت تكاد تنعدم. وكان الحكم للبالغين.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

وفي نظر البابا بنديكتوس، وغيره من المحافظين، فإن الثورات الاجتماعية والجنسية التي شهدها منتصف القرن العشرين قد تبدو وكأنها عربدة وفجور. ولقد كانت كذلك بالفعل بالنسبة للبعض: مذهب اللذة في الحياة المثلية في أمستردام أو سان فرانسيسكو، والعادات الجنسية في بعض مجتمعات الهيبيز، والامتيازات الجنسية شبه الإقطاعية التي يتمتع بها نجوم الروك. ولكن هذه الحياة لم تكن متوفرة للجميع. والتغيرات الحقيقية التي حدثت في بلدان مثل أيرلندا وألمانيا والولايات المتحدة، كانت معنية بوضع النساء والأطفال.

فلم يعد من المقبول أن يتخذ الرجال خليلات، أو أن يقيم المعلمون علاقات جنسية مع طلابهم، أو أن يستمتع الكهنة بما تمنحهم إياه خادماتهم الخصوصيات من متع جنسية. وأصبح الناس أقل تسامحاً مع النفاق. وعلى نحو ما، جلبت التحولات الاجتماعية في فترة الستينيات والسبعينيات شكلاً جديداً من أشكال التطهر والتزمت. ففي الولايات المتحدة بصورة خاصة، قد يفقد الرجل وظيفته إذا أبدى تعليقاً جنسياً "غير لائق"، وقد تنهار الزيجات بسبب علاقة جنسية عابرة، وتحول أي شكل من أشكال ممارسة الجنس مع الأطفال إلى محظور مطلق.

وربما لأن الكثير من المحرمات الأخرى سقطت، فإن تحريم الجنس مع الأطفال يحظى بحماية تكاد تكون متعصبة. وحتى مجرد التخيل في هيئة رسوم إباحية، أصبح مجرماً في بعض البلدان. ولا شك أن استغلال الأطفال، سواء كان جنسياً أو غير ذلك، أمر يبعث على الأسى، ويكفي أن الأطفال نادراً ما يملكون القوة الكافية للمقاومة.

وحتى البابا يوافق على أن تحرير المرأة، وحماية الأطفال، من الأمور الطيبة. والواقع أنه أثناء عمله ككاردينال كان منع الكهنة من الاعتداء على القاصرين جزءاً من وظيفته. ولكن من الواضح أنه لم يكن ناجحاً في أداء هذه المهمة. وقد يكون هذا راجعاً إلى اعتبار مهم يتلخص في أن مسألة حماية الكنيسة من الفضائح كانت تشكل وظيفة أكثر أهمية.

كان الكاثوليك يميلون أكثر من البروتستانت إلى التسامح مع النفاق. وكان نشوء البروتستانتية في جزء منه بمثابة احتجاج على ذلك الميل. والواقع أن البروتستانت المتزمتين يعتبرون الصراحة القاسية فضيلة، وذلك لأنهم يعتقدون أنهم على اتصال مباشر بالرب. ويعترف الكاثوليك لقساوستهم وليس للرب مباشرة. وعلى هذا فمن الممكن التعامل مع الخطايا ما دامت بعض المراسم اللائقة كفيلة بمحوها. وهذا يفسر لنا لماذا اختار الفاتيكان وصف الاعتداءات الجنسية من قِبَل رجال الدين على الأطفال باعتبارها خطايا بدلاً من جرائم.

ولكن هذا لم يعد مقبولاً في عالم أكثر تحرراً، ليس لأن العلمانية دمرت الحس الأخلاقي لدى الناس. فالعلمانية لم تلمح قط إلى أن الاعتداء على الأطفال أمر مقبول. كلا، إن المشكلة بالنسبة للكهنة الخطاءين هي أن السلطة في المجتمعات الديمقراطية لم تعد تتمتع بنفس القدر من التميز الذي كانت تتمتع به في الماضي، كما أصبح الناس أقل استعداداً للتسامح مع النفاق. ونتيجة لهذا فإن قسم العزوبة أصبح يشكل مفارقة تاريخية غير صالحة للتطبيق.

ولكن هذه المشكلة ليست بلا حل. أو إن لم يكن الحل متوفراً فهناك احتمال التحسين: فبوسع الكنيسة أن تسمح للكهنة بالزواج، أو بتكوني علاقات مثلية مع البالغين الراضين. والواقع أن البابا بنديكتوس السادس عشر، وهو رجل محافظ صارم في المسائل الفقهية، من المستبعد أن يؤيد هذه الفكرة. بل سوف يستمر على الأرجح في إلقاء المواعظ ضد شرور المجتمع العلماني والإغراءات الخطيرة التي تفرزها الليبرالية. ولكن هذا لن يفيد الناس كثيراً، وذلك لأن البشر ضعفاء بطبيعتهم، وسوف يجدون وسيلة لإشباع احتياجاتهم. وإذا لم يتم هذا الإشباع بصورة قانونية، فسوف ترتكب الجرائم في حق الناس الأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم.

https://prosyn.org/5BbAiZ5ar